تسجيل "بروحك تحمي الياسمين"، بدقائقه الأربع عشرة، خلاصة أخرى لفترة حكم الأسد الثاني، وارث الكرسي والذعر. لم يسهُ المخرج الذي تعمد البطء في التصوير، إذ اختيرت الموسيقى الكلاسيكية، الهوليودية الاستخدام في سائر المشاهد، مثلما كانت سمفونيات ماهلر في تأبين الأسد الأول تخفي ضحالة الكلمات المتبادلة بين المعزّين.
أسماء الأسد بين النساء كزوجها بين الرجال، في "قصر الشعب" الذي قصّت الجرافات أحد رؤوس قاسيون لينتصب الصرح ويشمخ عالياً فوق رؤوس الشعب. صدى كلامها يتطاول في قاعة مرمر، رحابتها تتلألأ في عرين الزوج وشقيقه وأبيهما الذي "ظلّ خالداً حتى مات". الراوي يفتتح الفيديو كليب ويختتمه بفصاحة المذيعين وإنشائهم، مثله مثل بطلة التسجيل التي تولي ظهرها للكاميرا في البداية، واقفة تطل على جسر قاسيون، قبالة نصب الجندي المجهول، وعلى ذاك العشب حواليه ربما جلست الزائرات، فيما مضى، أيام العطلات. إنها واقفة، وقوفها إلى جوار زوجها في مستشفى الأطفال بالربوة وطبيب العيون ينقط قطرة لقاح الشلل في فم رضيع، لكن القاعة هنا عالية السقف، علوَّ سقف الوطن أو سقف الجحيم. تدور الكاميرا حول أمّ تحضن صورة ابنها القتيل، وتدور كمنظار القناص في النافذة الواسعة، كأنها عين السيدة الأولى تستطلع المنحدر مثل ضابط ينتظر وصول البواخر المرسلة من أباطرة الكرملين لترسو في ميناء طرطوس. هل من خندق محفور حول القصر يتخفى حراسه بين أشجار الجاكراندا على السفوح؟ بلور النافذة مضاد للرصاص، نظيف وسميك، يخفي الحوامات ودخان الضواحي المقصوفة بالبراميل، لا تزلزله المدافع ليبلغ مسامعها هلع أمٍّ تستغيث، ولا تخترقه صيحات الغرقى والمصعوقين وفرائس البرد في خيم الزعتري.
لم تتغير البلاغة المدرسية، ولم تسلَمِ الزوجة من عدوى الزوج بالمنطق فراحت تحاكيه في رجاحة الأسلوب، وإن توخّتِ الأناة أكثر منه. لا تزال سوريا هي الأم وأرض الياسمين؛ والولد غالٍ لكن الوطن أغلى. جوهر الطغيان يستعصي على أي تغيير، لكن أناقة الأزياء ونحافة السيدة الأولى ورشاقتها مواكبة لروح العصر، مثل شركتي الموبايل (أريبا وسيرياتل)، مثل المصارف والجامعات الخاصة والتعليم المفتوح وجمعيات حماية البيئة، مثل رئيس شاب ضاحك يقود دراجة هوائية ببيجامة الرياضة وابنه سميُّ أبيه جالس خلفه متشبثاً بخاصرتيه، مثل مولات التاون سنتر والسيتي سنتر وإذاعات الإف إم، مثل ازدهار الدراما ودبلجة المسلسلات التركية؛ ولأسماء الأخرس، بنت حمص وربيبة إنكلترا الليبرالية المحافظة، أداءُ ونبرة الممثلة التي لعبت دور لميس في مسلسل "سنوات الضياع".
الأم الشابة، الرؤوم التي ما ترمّلت وما ثكلت ابناً، الوحيدة المسمّاة بين المجهولات، عطرها محاط بروائح الأرامل والثكالى وإنشاد اليتامى في جوقة الترتيل. بدت كإنجيلينا جولي في مخيمات النازحين، كمن تتحرك وحدها وسط الدمى، تملأ الأطباق وتديرها على مائدة الصدقات، مائدة الموت، وتواصل الابتسام بين الضيوف والأهل، بنصاعة أسنانها وسط سواد الفساتين. كل امرأة، في قاعة اقتصر روادها على النساء، نموذجٌ غفلٌ من نماذج اللهجات والمناطق السورية، بمناديل رؤوسهن وترنح مشيتهن، جيء بهنّ من حوران والساحل وحمص والسويداء ودمشق، ليلتممن كالمبايعات حول "المسماة الوحيدة"، بعد أن فُتّشن ليتيقّن العسس المخلصون أن لا أجساد مفخخة في حشدهن، حشد ربات المنازل الفقيرات، بأجسادهن الممتلئة بفظاعات الأرق والكآبات وهول الفقد، بحناجرهن المبحوحة بالنواح في الجنازات والعويل في وحشة منازل تسكنها أرواح القتلى، بأكتافٍ هدّلتها المصائب وشفاه مزمومة بفداحة عبور الزمن.
جميعهن، كعينات من خمسة آلاف أم على الأقل فقدت ابناً مجنداً أو متطوعاً في الجيش السوري، لسن إلا مقدمة لظهور صاحبة المعالي، لتسير صوبهن على بساط أحمر كأنها في دعاية شركة عابرة للقارات؛ تتقدم لتربت على الأكتاف وتمسح الرؤوس، ثم تنحني لتكفكف دمع جدة خسرت حفيدها، وتقرفص أمام كرسي المقْعَدَة المتحرك، مثلما كانت تداعب ذوي الاحتياجات الخاصة في غابر الأيام.
تلتِ السيدة الأولى على مسامع المفجوعات الموفَدات موعظة كانت تنكيلاً بمعنى الرحمة. وعظت المخذولات بالإصرار والصلابة والقوة، ولاك فمها كلاماً من قبيل "استرخاص الأرواح كرمى للبلد"، فسُمعت همهماتهن يتهامسن أنهن نذرن أبناءهن الشجعان ليفتدوا الوطن، فهم نذور ترابه كأكباش محرقة، وينتظرن النعاة ليتلقين نبأ مَن لم يقضِ بعد. وحين انتهى كلامها، انهلن عليها بالتصفيق والقبلات، بأكف معروقة أخفضن رأسها العالي لتطال شفاههن اليابسة خديها الناعمين، وفي أثناء العناقات غنّتِ اليتيمات عن الوطن المتوَّج بأكاليل الغار، مصحوبات بأورغ كهربائي. ما عاد آل طلاس، وكلاء وزارة الدفاع، موجودين ليفرقوا بالنيابة عن "سيد الوطن" آلاماً دنسة عن الألم الطاهر الذي يستحق التكريم، ويتكفلوا أبناء الشهداء الذين كانوا يخطئون في ترديد "حماة الديار"، فيُسمَع الخطأ نفسه مراراً "وماتَ المجيد" عوضاً عن "وماضٍ مجيد".
انتهت الزيارة مذيَّلةً بصور تذكارية أضاءتها الابتسامات، وبروق العدسات تومض ليعقبها انهمار الدمع، فالربيع الذي تحدثت السيدة عن زهوره سحقته الأسلحة.